إنّ من سمات الخطاب الناجح والمؤثّر أن يُعايش واقع الناس وينفذ إلى أعماقهم ويركز على القيم والمفردات المحبّبة إلى وجدانهم وهي تلك القيم التي يناضل المجتمع بأسره من أجل تكريسها وترسيخها، ولا شكّ أن قيم الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان هي محور نضال الشعوب العربية والإسلامية وعليه فإنّ الخطاب الديني الإسلامي، أيّا كانت وسيلة بثّه ومهما كان المنبر الذي يبلغه للجماهير فإنه لا بدّ وأن يُؤسّس على هذه القيم وغيرها من قيم الحق والصدق والخير وأن يعمل على نشرها وترسيخها حتى تصبح ثقافة وسلوكا شائعا، حتى نمضي قُدما ودون إبطاء وبشكل ملموس في طريق بناء نظم ديمقراطية
وعندما نتحدث عن نظم ديمقراطية، فإنّنا نقصد بها - دون أدنى لبس - الديمقراطية الحقيقية التي قد تختلف في أشكالها ومظاهرها، وفقا للتغّيرات الثقافية والحضارية من بلد لآخر، ولكن جوهرها يظل واحداً، فهي تعني ذلك النظام الذي تكون الحريّة فيه هي القيمة العظمى والأساسيّة، بما يحقّق السيادة الفعلية للشعب الذي يحكم نفسه بنفسه, من خلال التعدّدية السياسيّة التي تؤدي إلى التداول على السلطة، وتقوم على احترام كافة الحقوق في الفكر والتّنظيم والتّعبير عن الرأي، مع وجود مؤسسات سياسية فعّالة، على رأسها المؤسّسات التشريعية المنتخبة، والقضاء المستقل، والحكومة الخاضعة للمساءلة الدستورية والشعبية، والأحزاب السياسية بمختلف تنوعاتها الفكرية والأيديولوجية. كما تقتضي هذه الديمقراطية الحقيقية كفالة حريّة التّعبير بكافة صورها وأشكالها، وفي مقدّمتها حرية الصحافة ووسائل الإعلام السمعية والبصرية والإلكترونية. والاعتماد على الانتخابات الحرة، وبشكل دوري، لضمان تداول السلطة وحكم الشعب، وتحقيق أقصى قدر ممكن من اللامركزية التي تتيح للمجتمعات المحلية التعبير عن نفسها, وإطلاق طاقاتها الإبداعية في إطار خصوصياتها الثقافية التي تسهم عن طريقها في تحقيق التقدم الإنساني في جميع مجالاته
إنّ الخطاب الديني لا يزال قاصراً على أفراده, سواءٌ أكان وعظاً أم إرشاداً أم إجابة عن أسئلة النّاس واستفساراتهم، مستخدما مفردات تراثية محضة تؤدّي في أحيان كثيرة إلى اللّبس والتّشويش, وتخلق صعوبات في الفهم وخلط في التّصورات لدى المستقبلين، لذا نحتاج إلى تحديد للمصطلحات ومفاهيمها, وإلى تجديد على مستوى الأسلوب والشكل في الخطاب.
وإلى جانب ذلك نجد هذا الخطاب التقليدي يركّز عموما على قضايا الصراع الديني والمذهبي، ويجنح في كثير من الأحيان إلى ممارسة الدّور الدعائي لجهات وجماعات وشخصيّات دينية أو مذهبية، متجاهلا ما يحتاج إليه الجمهور من حقائق وأفكار ومعلومات وقيم معرفية وحضارية، ومتناسيا الطبيعة العالمية التي يتمتع بها الإسلام ممّا يحصر هذا الخطاب الديني الإسلامي في أطر ضيقة ومحدودة تعزله عن السّاحة الفكرية عزلا شبه تام ٍومن دون مسّوغ.
إنّ هذا النوع من الخطاب اليوم في حاجة إلى طرح قضايا مهمّة تخص الدّولة والمجتمع كالعدل والحرية، والمساواة، والمشاركة في صنع القرار، وتكريم الإنسان. وتقرير حقوقه الأساسية والتّعددّية والاجتهاد، ومراعاة مصلحة الجماعة، وضمان حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير, وذلك بما لا يتعارض مع حقوق الأمة ومبادئها العامة.
ومن القضايا المهمّة اليوم مسألة الديمقراطيّة التي تعني عموما ممارسة الحكم بموافقة حرّة من جانب أفراد الشّعب. ولمّا كان اجتماع الشّعب مستحيلا، فإنّ حكمه أصبح يعني حكم الأغلبيّة. ومن أجل ضمان الحكم بموافقة الشعب, اهتدت بعض الشعوب إلى مجموعة من المؤسّسات والآليات والضمانات القانونية والسياسية لتطبيق الديمقراطية. فهي شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهّلين لوضع قوانين على قدم المساواة - إمّا مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم - في اقتراح وتطوير واستحداث القوانين أو تقرقر المصيرالسياسي. ويطلق مصطلح الديمقراطية أحيانا على المعنى الضّيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطيةٍ، أو بمعنى أوسع لوصف ثقافة مجتمع.والديمقراطيّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميّز يؤمن به ويسير عليه المجتمع، ويشير إلى ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية معيّنة تتجلّى فيها مفاهيم تتعلّق بضرورة تداول السلطة سلميّا وبصورة دورية.
فالديمقراطية ليست إذن مجرّد آليات ومؤسّسات، بل إنّها ثقافة يتربّى عليها النّاس في سلوكهم اليومي من خلال احترام الآخر، والقبول بالتنّوع والاختلاف وإدارة الحوار بالطرق السلمية. كما تنعكس في العلاقات الأسرية والاجتماعية، وتدبير تداول السلطة داخل المدرسة والجمعيات وفي العلاقات الدولية أيضا.
أمّا قضية المواطنة فهي مستمدّة من الوطن، وهو قطعة الأرض التي اتّخذتها مجموعة بشرية موضعا للإقامة والسّكن والعيش المشترك في ظل الانتماء والولاء لهذه الرّقعة، وأحقيّة كلّ فرد في التمتّع بالحقوق والحريّات الإنسانية، مقابل القيام بالواجبات المستحقّة عليه، بغية ترسيخ قيمة مجتمعية كبرى هي قيمة المواطنة.
ولكون الوطن هو المأوى والملاذ وبه يكون الاحتماء، اعتبره القرآن الكريم معلما محدّدا لطبيعة العلاقة بين الأديان والأمم والشّعوب، فينبغي أن تبنى العلاقة بين أفراده على المودّة والتفاهم والعدالة والسّلم الاجتماعي والتعايش بين المختلفين في الأديان والأجناس والألوان واللّغات. وقد جعل الإسلام من الاختلاف في العقائد والتمايز في الطبائع البشرية وسيلة إلى التلاقي والتعاون, وهذا يعدّ من دعائم النظام الاجتماعي في الإسلام، وهو ما حرص على تحقيقه الرّسول صلى الله عليه وسلم الذي شيّد بنيان دولة الإسلام في المدينة, وأسّس لوحدتها وللتّماسك الاجتماعي في إطار التعدّدية الدينية والمساواة في الحقوق والواجبات، على الرغم من الاختلاف في الدّين والعنصر، كمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار. ولعلّ صحيفة المدينة التي تعدّ وثيقة دستورية سابقة لعصرها, خير برهان على حقيقة الإسلام كدين إنساني يجمع بين الأغيار المخالفين، ويكفل العيش المشترك والمصير الواحد للوطن الذي هو حقّ الجميع وتعميم حق المساواة والعدالة التي لا تقتصر على المسلمين، وإنّما تعمّ كل أبناء الوطن، المسلم وغير المسلم، يثبت فيه للجميع داخل هذا الوطن حق المساواة التشريعية والحقوقية وتطبيق العدالة أمام القانون والقضاء والاعتراف بالحرّية الدينّية وحقّ ممارسة الشعائر لغير المسلمين والتعاون معهم على التعاون والتناصح في الدّفاع عن الوطن؛ لأنّه الوسيلة الوحيدة إلى حفظ النّفوس وبقاء الدّين واستدامة وجود المجتمع وتنظيمه.
فالمواطنة قيمة إنسانيّة ودينّية ثابتة أساسها الأصل الإنساني الواحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): أيها الناس: إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, كُلُّكُمْ لآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَاب, إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)رواه أبو داود في سننه والتعارف والتعاون قال ربنا تبارك وتعالى:}يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ سورة الحجرات (الآية:13)
أمّا حقوق الإنسان في الإسلام فهي حقوق مؤسّسة على العقيدة، والالتزام بها ناشيء بقوة الإيمان، وهو طابع يتركّز على ضمان معنى الإنسانية للإنسان، الذي سيبقى قادرا على التأثير في تطوير المبادئ القانونية التي تحكم قانون الإنسان في المجتمع الإنساني ومنها "حقّ الحياة، وحقّ الإرادة للإنسان، وحقّ حرّية الاعتقاد، وحقّ المساواة في الإنسانّية، وحق العدل، وحقّ الحماية للأسرة...
ولضمان حسن تنزيل هذه القيم والصيغ الجديدة, وحتّى لا تكون مجرّد نصوص نظريّة, أو مسكّنات دستورية تقبل المناقشة ولا تقبل التنّفيذ.
وبناء على ذلك نقترح التركيز على الجوانب التالية في تجديد الخطاب الإسلامي.
فإنه يمكن صياغة خطاب جديد:
1- يقدّم أطروحات أساسية متفق عليها في الجانب السياسي تعوض النّقص والاختلال الذي شهده الفكر والفقه الإسلامي خلال عهود التراجع الحضاري، والذي أسفر عن تضخّم في مجال العبادات، وفقر في المجال الدستوري والسّياسي, نتج عنه خطاب جزئي ركّز على الشّكليات وأغفل العديد من القضايا الجوهرية في حياة الناس, وبخاصّة كرامة الإنسان وحقوقه وحريّاته.
2- يدعم تأسيس الدّولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمّة, يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها الحاكمة, ويحدّد إطار الحكم, ويضمن الحقوق والواجبات لكلّ أفرادها على قدم المساواة, بحيث تكون سلطة التشّريع فيها لنّواب الشّعب بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح ؛ حيث لم يعرف الإسلام في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه عموما, ما يُعْرف في الثقافات الأخرى بالدّولة الدّينية الكهنوتيّة التي تسلّطت على النّاس وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل تركت للنّاس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحقّقة لمصالحهم, شريطة أن تكون مراعية للمبادئ الكليّة للشريعة الإسلامية وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في ما له صلة بأحوالهم الشخصيّة.
3- يعتمد على نّظام ديمقراطي قائم على الانتخاب ؛ لأنّه الصيغة العصرية المثلى-إلى حدّ الحظة- لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعدديّة ومن تداول سلمي على السلطة, ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسؤولين أمام ممثلي الشعب.
4- يلتزم بمنظومة الحرّيات الأساسية في الفكر والرأي، والتأكيد على مبدأ التعددّية واحترام الأديان السماوية واعتبار المواطنة مناط المسؤولية في المجتمع.
5- يرّسخ قيمة المواطنة, والوحدة الوطنية, وحبّ الوطن, والدفاع عنه, والتأكيد على العزّة الوطنية, واحترام كرامة المواطنين, والمساواة بينهم بغض النظر عن الدّين أو العرق.
6- يعيد بناء المسلم المعاصر, ليكون إنسانا حضاريا فاعلا في مجتمعه ومنتجا وليس عالة على الآخرين، يفهم حقيقة الإسلام ومهمته وهي عبادة الله وتعمير الأرض. ولكن هذه المهمة لا تتم بمجرّد الكلام الإنشائي الجميل, وإنّما يجب أن تكون عملّية مستمرّة تعتمد على آلية واعية تستهدف نفسيّة المسلم المعاصر.
7- ينبذ العنف وتأكيد على قيمة الحوار وترسيخ أدب الاختلاف في الرأي؛ بحيث يتمّ تأكيد التمسّك بالطرق السلّمية في التغيير، والتحوّل من فكرة تفجير الجسد إلى تفجير طاقات العقل، واعتماد الحوار باعتباره منهج الحياة.
8- ينهي حالة الفوضى في الخطاب الإسلامي النّاجمة بالأساس عن كثرة المتحدّثين باسم الإسلام, وعدم أهليّة غالبيّتهم لهذه المهمة.
ومن هنا يجب التأسيس لخطاب إسلامي يؤصّل فكرة السلمية والإيمان بالتداول السلمي على السلطة ونبذ العنف، ليس لأنّ هذا أمرا طارئا أو جديدا على الفكر الإسلامي، وإنّما لأنّ حجم التشويه -من الداخل والخارج - يسهم إلى حد كبير في إذكاء نار الفتنة والفرقة والهدم.
ولا شكّ أنّ هناك مرتكزات أساسية، من الضّروري أن تؤخذ في الاعتبار, لتجديد الخطاب الإسلامي حتّى يتمكّن من أن يسهم في تكوين رأي عامّ واع ومؤثر وهي:
1- التركيز على ما يجمع الشمل و يؤكّد على الوحدة قال تعالى )وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[1](.
2- توحيد الخطاب في القضايا الكبرى : فلابدّ من تربية الأمّة على التوحّد والاتّفاق خاصّة فيما يتعلّق بالقضايا الجوهرية، فقد جاء الأنبياء عليهم السّلام إلى أقوامهم بخطاب واحد يقول كلّ منهم لأمته وقومه )يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ[2](.
والســـــّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] سورة آل عمران ( الآية : 103)
[2] سورة الأعراف (الأية: 59)